الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **
قد تقدم لنا أن دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار إلى سرخد من قلاع الشام سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوج بها وأنه مر في الغوطة بحي من أحياء كلب فأسروه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق. وبلغ الخبر إلى الأتابك زنكي. وكان عدواً له فبعث فيه إلى تاج الملوك بوري. وفادى من ابنه سونج والأمراء الذين معه عنده فأطلقهم. وبعث بوري إليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن إليه وأزاح علله. وبعث المسترشد فيه إلى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه إلى زنكي. فذم الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا إليه وهم سديد الدولة بن الأنباري. وأبو بكر بن بشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد. وبقي دبيس عنده حتى انحدر معه إلى العراق.
ولما توفي السلطان محمود سنة خمس وعشرين. واختلف ولده داوود وأخوه مسعود. وسار داود إلى مسعود وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين. ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الأتابك عماد الدين زنكي يستنجده. وسار إلى بغداد فحاصرها وكان قد سبق إليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير. وأنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة. وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود أتاهم خبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم. وأنه وصل إلى المعشوب فرجع قراجا الشامي إلى محاربته وسار سلجوق شاه بالعساكر إلى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير. وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه. وأسر كثيراً من أصحابه. وسار زنكي منهزماً إلى والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح الدين فتأخر. ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود. وولاية العهد لسلجوق شاه. وذلك منتصف سنة ست وعشرين.
قد قدمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه. ثم استقرار مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق. على أن يكون ولي عهده. ثم إن السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيماً فبلغ همذان. وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد إلى فجاءته الأخبار بوصول الأتابك زنكي ودبيس بن صدقة إلى بغداد فذكر دبيس أن السلطان سنجر أقطعه الحلة وبعث يسترضي فلم يشفعه وذكر الأتابك زنكي أن السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد. واستمر السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مر فعاد المسترشد إلى بغداد. ونزل العباسة من الجانب الغربي ولقي الأتابك زنكي ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الأتابك بالموصل. واقعة الإفرنج على أهل حلب وفي غيبة الأتابك زنكي سار ملك الإفرنج من القدس إلى حلب فخرج نائبها عن الأتابك زنكي وهو الأمير أسوار. وجمع التركمان مع عساكره. وقاتل الإفرنج عند قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا إلى حلب وسار ملك الإفرنج في أعمال حلب ظافراً ثم سار بعض الإفرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج إليهم الأمير أسوار ومعه حسان التغلبي الذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقي منهم وعادوا ظافرين. حصار المسترشد الموصل ولما وقع ما قدمناه من وصول زنكي. إلى بغداد وانهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص. ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية واعتزلهم جماعة من أمرائهم فراراً من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الأتابك زنكي و فقدم إليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسفرايني الواعظ وحمله عتاباً أغلظ فيه وزاده الواعظ غلظة حفظاً على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الأتابك لما شابهه به وأهانه وحبسه. وأرسل المسترشد إلى السلطان مسعود على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكي. ثم سار في شعبان سنة سبع وعشرين إلى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل. فلما قارب الموصل فارقها الأتابك زنكي إلى سنجار وترك نائبه بها نصر الدين جقري وجاء المسترشد فحاصرها والأتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الأقوات وضاقت عليهم الأحوال وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها. وسعى بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرح عنها وعاد إلى بغداد. وقيل إن مطراً الخادم جاءه من بغداد وأخبره أن السلطان مسعوداً عازم على قصد العراق فعاد مسرعاً.
قد كنا قدمنا أن الأتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين. وتوفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست وعشرين وولي بعده ابنه شمس الملوك إسماعيل وملك بانياس من الإفرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أن المسترشد بالله حاصر الموصل فسار هو إلى حماة وحاصرها وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم. ثم حصر الوالي ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضاً واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار منها إلى قلعة شيزر فحاصرها ابن منقذ فحمل إليه مالاً صانعه به وعاد إلى دمشق في ذي الحجة من السنة.
ثم حصار قلاع الحميدية وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الأتابك زنكي صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد. واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار إليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره. وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها. وسار زنكي إلى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة. ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي فاستوزره الأتابك وكان حسن الطريقة عظيم الرئاسة والكفاية محبباً في الجند وتوفي سنة ست وثلاثين بعدها. ثم استولى الأتابك على سائر قلاع الأكراد الحميدية مثل قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما. وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها. فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام وجمع له الأكراد. فلما عاد المسترشد إلى بغداد من قتال الأتابك زنكي حاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالاً شديداً حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى أعلم.
حدث ابن الأثير عن الجنيبي أن الأتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء بن عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشي فاستأمن الأتابك واستحلفه وحمل له مالاً. ثم وفد عليه بالموصل بعد أن أخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشي وولى على أشب رجلاً من الكرد واسمه باد الأرمني. وابنه أحمد هذا هو أبو علي بن أحمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين. ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى وسار أحمد إلى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلي الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الأتابك زنكي في عساكره ونزل على أشب وبرز أهلها لقتاله. واستجرهم حتى ابعدوا ثم كر عليهم فأفناهم قتلاً وأسراً وملك القلعة في الحال. وسيق إليه باد في جماعة من مقدمي الأكراد وقتلهم وعاد إلى الموصل. ثم سار غازياً في بعض مذاهبه فبعث نائبه نصر الدين جقري عسكراً وخلى كنجا ورسى في قلعة العمادية وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشي والزعفراني والغي وسرف وسفروه وهي حصون الهكارية فحاربها وملكها جميعاً. واستقام أمر الجبل والزوزان. وأمنت الرعية من الأكراد. وأما باقي قلاع الهكارية وهي حلا وصوراً وهزور والملايسي ويامرما ومانرحا وباكرا ونسر فإن قراجا صاحب العمادية فتحها بعد قتل زنكي بمدة طويلة. كان أميراً على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال ابن الأثير. ولم أعلم قال وحدثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد. أن أبا بكر زنكي لما فتح قلعة أسب وحرساني وقلعة العمادية ولم يبق في الهكارية إلا صاحب جبل صورا وصاحب هزور ولم يكن لهما شوكة يخشى منهما. ثم عاد إلى الموصل وخافه أهل القلاع الجبلية. ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة والغي وفرح وملكها بعده ابنه علي وكانت أمه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم وعيسى وهما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها علي إلى أخويها المذكورين وهما خالاه ليستأمنا. له من الأتابك فاستحلفاه وقدم عليه فأقره على قلاعه واستقل بفتح قلاع الهكارية. وكان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخربه لكبره وقلة أعماله. وكان نصر الدين جقري يكره علياً صاحب الريبة والغي وفرح فسعى عند الأتابك في حبسه فأمره بحبسة ثم ندم وكتب إليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين قتله. ثم بعث العساكر إلى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد علي وأخوته ونجت أمه خديجة لمغيبها. وجاء البشير إلى الأتابك بفتح الريبة فسره ذلك. بعث العساكر إلى ما بقي من قلاع علي فأبى إلا أن يزيدوه قلعة كواشي فمضت خديجة أم علي إلى صاحب كواشي من المهرانية واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشي لإطلاق أسراهم ففعل ذلك وتسلم حصار الأتابك زنكي مدينة دمشق كان شمس الملوك إسماعيل بن بوري قد انحل أمره وضعفت دولته واستطال عليه الإفرنج وخشي عاقبه أمرهم فاستدعى الأتابك زنكي سراً ليملكه دمشق ويريح نفسه. وشعر بذلك أهل دولته فشكوا إلى أمه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته. وجاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات وولي مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر إلى الأتابك فلم يحفل به. وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتد أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين. ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري إلى الأتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم.
كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه. ولحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الأمراء. وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب أصفهان وصاحب الأهواز وصاحب الأبلة وصاحب الموصل الأتابك زنكي. وخرجت إليهم العساكر من بغداد وولي داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الأتابك. ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود الأتابك زنكي وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد إلى الأتابك بمائتي ألف دينار. ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض على الأمير بك أبه ونهب ماله فانحدر الأتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا وعاد زنكي إلى بغداد ومر على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود. وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعوداً سار إلى بغداد فعاد إليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفاً وخمسين يوماً وارتحل إلى النهروان. ثم قدم عليه طرتطاي صاحب واسط بالسفن فرجع إلى بغداد وعبر إلى الجانب الغربي. ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود إلى ولايته بأذربيجان. وافترق الأمراء الذين معه ولحق الراشد بالأتابك زنكي في نفر من أصحابه وهو بالجانب الغربي. وسار معه إلى الموصل ودخل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين واستقر بها سكن الناس. وجمع القضاة وأنفقها وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه. ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم إلى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل وحكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد ونصب للخلافة ابن المستظهر. وجاء رسول الأتابك زنكي إلى بغداد وهو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري وبايع بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف إلى الأتابك بإقطاع من خاص الخليفة ولم يكن ذلك لأحد قبله. وعاد كمال الدين إلى الأتابك وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل. وانصرف الراشد عن الموصل إلى أذربيجان كما مر في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولي التوفيق. غزاة عساكر حلب إلى الإفرنج ثم اجتمعت عساكر حلب مع الأمير أسوار نائب الأتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين إلى بلاد الإفرنج وقصدوا اللاذقية على غرة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلأت أيديهم من الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيزر وملؤوا الشام بالأتراك والظهر ووهن الإفرنج لذلك. والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده. حصار الأتابك زنكي مدينة حمص واستيلاؤه على بغدوين وهزيمة الإفرنج واستيلاؤه حمص ثم سار الأتابك في العساكر في شعبان سنة إحدى وثلاثين إلى مدينة حمص وبها معين الدين بن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم إليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأن ذلك ليس من الإصابة فحاصرها والرسل تردد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بغدوين من حصون الإفرنج في شوال من السنة فجمع الإفرنج وأوعبوا وزحفوا إليه واشتد القتال بينهم. ثم هزم الله العدو ونجا المسلمين منهم ودخل ملوكهم إلى حصن بغدوين فامتنعوا به وشد الأتابك حصاره. وذهب القسوس والرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم والإفرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوفونهم استيلاء الأتابك على قلعة بغدوين وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس. وجد الأتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع الأخبار. ثم استأمنوا على أن يحملوا إليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة. ثم سمعوا بمسير الروم والإفرنج لانجادهم وكان الأتابك خلال الحصار قد فتح المعرة وكفر طاب في الولايات التي بين حلب وحماة ووهن الإفرنج. ثم سار الأتابك زنكي في محرم سنة اثنين وثلاثين إلى بعلبك وملك حصن المعدل من أعمال صاحب دمشق. وبعث إليه نائب بانياس بالطاعة كذلك. ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره. فسار إلى سلمية ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها. وحملت الخاتون إليه في رمضان وظن أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك. والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده.
ولما استنجد الإفرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مر جمع ملك الروم بالقسطنطينية وركب البحر سنة إحدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار إلى مدينة قيليقية فحاصرها وصالحوه بالمال وسار عنها إلى أدنة والمصيصة وهما لابن ليون الأرمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما. وسار إلى عين زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله إلى جزيرة قبرص. ثم ملك مدينة إنطاكية في ذي القعدة من السنة وبها ريمند من ملوك الإفرنج فصالحه ورجع إلى بغراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالأموال ودخل في طاعته. ثم خرج إلى الشام أول سنة اثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب وبعثوا بالصريخ إلى الأتابك زنكي فبعث بالعساكر إلى حلب لحمايتها وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالأمان منتصف السنة. ثم غدر بهم واستباحهم ورحل إلى حلب فنزل بدابق ومعه الإفرنج ورجعوا من الغد إلى حلب وحاصروها ثلاثاً فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم. ورحل عنها إلى قلعة الأثارب في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم بها الأسرى والسبي وأنزلوا بها حامية. وبعث إليهم أسوار نائب حلب عسكراً فقتلوا الحامية وخلصوا الأسرى والسبي ورحل الأتابك من حصن الأثارب بعد فتحه إلى سلمية وقطع الفرات إلى الرقة. واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها. واستصرخ صاحبها بالأتابك زنكي فسار إليه ونزل نهر العاصي بين شيزر وحماة. وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم. وبعث إلى الروم يدعوهم إلى المناجزة والنزول إلى البسيط فخاموا عن ذلك فرجع إلى التضريب بين الروم والإفرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوماً واتبعه الأتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم. ثم أرسل القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده على العدو ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من الفرات إلى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جامع القصر من ينادي بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء وتسايلت العوام من كل جانب وجاؤوا إلى دار السلطان في تلك الحالة وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكراً عظيماً. وخاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك ومن مسير العسكر والله تعالى أعلم.
ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوال كما مر في أخبار دولتهم وكانت أمه زمردخان متزوجة بالأتابك كما مر فبعثت إليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب منه أن يسير إلى دمشق ويثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك. واستعد أهل دمشق للحصار ثم قصد الأتابك مدينة بعلبك ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق وتزوج أمه وبعث بجاريته إلى بعلبك. فلما سار الأتابك إلى دمشق قدم رسله إلى أنز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبى من ذلك وسار الأتابك إلى بعلبك فنازلها آخر ذي الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق. وشدد حصارها حتى استأمنوا فملكها. واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا إلى الأتابك. فلما ملكها قبض عليهم وصلبهم وتزوج جارية أنز ونقلها إلى حلب إلى أن بعثها ابنه نور الدين محمود إلى صاحبها بعد موت الأتابك والله تعالى حصار الأتابك زنكي مدينة دمشق ثم سار الأتابك زنكي إلى حصار دمشق في ربيع الأول من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبك فنزل بالبقاع وأرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها إليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب إلى ذلك فزحف إليه ونزل داريا والتقت الطلائع فكان الظفر لأصحاب الأتابك. ثم تقدم إلى المصلى فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم. ثم أمسك عن القتال عشراً يراود فيها صاحب دمشق. وبذل له بعلبك وحمص وما يختاره في البلاد. فجنح إلى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب. ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين أنز مكانه ابنه محيي الدين أنز وقام بأمره. وطمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه. وبعث معز الدين أنز إلى الإفرنج يستدعيهم إلى النصر على الأتابك ويبذل لهم ويخوفهم غائلته ويشترط لهم إعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الإفرنج لذلك وأجفل زنكي إلى حوران خامس رمضان من السنة معتزماً على لقائهم فلم يصلوا فعاد إلى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل إلى بلاده. ثم وصل الإفرنج وارتحل معين الدين أنز في عساكر دمشق إلى بانياس وهي الأتابك زنكي ليوفي للإفرنج بشرطه لهم فيها. وقد كان نائبها سار للإغارة على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب إنطاكية ذاهباً إلى دمشق منجداً فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق قلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم معين الدين أنز والإفرنج وملكها عنوة وسلمها للإفرنج وأحفظه ذلك. وفرق العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصاحب دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا إليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة. ثم أحجم عنهم لقلة من معه وارتحل إلى مرج راهط قي انتظار عسكره فلما. توافوا عنده عاد إلى بلاده.
كان شهرزور بيد قفجاق بن أرسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه التركمان وسار إليه الأتابك زنكي سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الأتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها. واستأمن إليه قفجاق فأمنه وسار في خدمته وخدمة بنيه بعده إلى آخر المائة. ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الأتابك زنكي وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب. وانهزم داود وملك الأتابك من بلاده قلعة همرد وأدركه فعاد إلى الموصل ثم سار الأتابك إلى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها إلى الموصل ورتب أصحابه مكانهم. ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه. ثم بعث الأتابك لسنة سبع وثلاثين عسكراً إلى قلعة أشهب وهي من أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها. وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره الأتابك بتخريبها وبنى قلعة العمادية عوضاً عنها وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن. وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم. صلح الأتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الأتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الأطراف وينسب ذلك إليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه. فلما فرغ السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة سار إلى بغداد عازماً على قصد الأتابك وحصار الموصل فأرسل الأتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع إليه ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفاً. ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج إلى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث إن غازي كان عند السلطان فهرب إلى الموصل فبعث إلى نائبه نصير الدين جقري يمنعه من دخولها وبعث إلى ابنه بالرجوع إلى خدمة السلطان. وكتب إلى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغير السلطان عليه وقد أعدته إلى الخدمة ولم ألقه وأنا مملوكك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع. ثم سار الأتابك إلى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن ذي القرنين وغير هذه وملك أيضاً من بلاد ماردين الإفرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد آمد فحاصرها وسير عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكها والله تعالى أعلم.
كان الإفرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد ونصيبين ورأس العين والرقة وكان زعيمهم ومقدمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الأتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه وجوسكين وعبر الفرات من الرها إلى غزنة. وجاء الخبر بذلك إلى الأتابك فارتحل منتصف جمادى الأخيرة سنة تسع وثلاثين وحرض المسلمين وحثهم على عدوهم ووصل إلى الرها وجوسكين غائب عنها فانحجز الإفرنج بالبلد وحاصرهم شهراً وشد في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك قبل اجتماع الإفرنج ومسيرهم إليه. ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك البلد عنوة. ثم حاصر القلعة وملكها كذلك. ثم رد على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية. وسار إلى سروج وجميع البلاد التي بيد الإفرنج شرقياً فملكها جميعاً إلا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم.
كان استقر عند الأتابك زنكي بالموصل الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمد ويلقب الخفاجي وكان شبيهاً به وتوهم السلطان أن البلاد له وأنه نائبه وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه. وكان يتردد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الأتابك وزين له قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل. فلما دخل إليه أغرى به أجناد الأتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين. ثم ألقوا برأسه إلى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوا صبوا واقتحموا عليه الدار. ودخل عليه القاضي تاج الدين يحيى ابن الشهرزوري فأوهمه بطاعته وأشار عليه بالصعود إلى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه وتقدم إلى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول. ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة وعاد القاضي إلى البلد. وطار الخبر إلى الأتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد وعاد إلى الموصل وقدم زين الدين علي بن كجك وولاه القلعة مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر. وخاف الإفرنج الذين بالبيرة من عودته إليهم فبعثوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون.
|